القائمة الرئيسية
تابعنا على
حالة الطقس
- الرئيسية
- / فقه الوقف
فقه الوقف
بسم الله الرحمن الرحيم
فقه الوقف
كتبه: أ.د. حمزة بن حسين الفعر
الحمد لله الذي بيَّن لنا شرائع الدين ، وجعلنا من المسلمين ، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على سيد الأولين والآخرين ، وإمام المتقين من بيَّن به الله طريق الحق والخير ، وهدى به إلى صراطه المستقيم محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وأزواجه أمهات المؤمنين ، وصحابته الغر الميامين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين .
أما بعد ، فإنَّ هذا الدين هو دين الله الخالد الباقي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ، دين الحق والعدل ، والصلة والتراحم ، ورعاية الحقوق ، وقد جعل الله في شرائعه كل ما يكفل خير البشرية في دنياها وأخراها ، بيَّن الواجبات التي لا بدَّ من الإتيان بها ، والمحرمات التي لا بدَّ من الامتناع عنها ، وهذه هي عصب التشريع ودعامته الأساس ، التي من حافظ عليها كتب له الفلاح في الدنيا والنجاة من عذاب الله في الآخرة ، ولكنه فتح أبواباً واسعة أخرى للمكلفين المتبعين لهذه الشريعة للتسابق في الخيرات ، والترقي في الدرجات لم يوجبها عليهم ، ولكنه ندبهم ودعاهم إليها مبيناً فضلها وعظم أجرها وعلو منزلتها عنده سبحانه حتى ينهل منها الراغبون ، ويستكثر منها الصالحون ، ومن ذلك الإنفاق في أوجه البر التي لا تجب على الإنسان على الأقارب والمحتاجين وي مصالح المسلمين ، حيث وردت آيات كثيرة في كتاب الله وفي سنة رسوله ﷺ تدعو إليه وترغب فيه ، من ذلك قوله تعالى : ﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [الحديد : 7] ، وقوله : ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾[الحديد : 11] ، وقوله : ﴿وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً﴾[المزمل : 20] ، وقوله : ﴿ لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾[آل عمران : 92] .
وجاء عن الرسول ﷺ فيما رواه عن الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص ، قوله : «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله عز وجل إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك»[الأدب المفرد 1/263 ، ح752] ، كما بيَّن لنا رسول الله ﷺ أنَّ أعظم الإنفاق أجراً وأبقاه أثراً ما يستمرُّ خيره في حياة صاحبه وبعد وفاته ، وهو ما سمَّاه النبي عليه السلام بالصدقة الجارية إشارة إلى عدم انقطاعها وبقائها ودوامها .
فقد روي عن النبي ﷺ أنه قال : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له»[سنن الترمذي 5/389وقال : هذا حديث حسن صحيح] .
وقد جاء الصحابي الجليل أبوطلحة إلى رسول الله ﷺ فقال : يا رسول الله : إن أحب مالي إليَّ بير حاء وإنها صدقة لله أرجو برَّها وذخرها عند الله ، فضعها يارسول الله حيث أراك الله ، فقال رسول الله ﷺ : «ذلك مال رائحٌ ، وقد سمعت مال قلت ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» ، قال أبوطلحة : أَفْعَلُ يارسول الله ، فقَسَمَها أبوطلحة في أقاربه وفي بني عمه . [صحيح البخاري 7/142] .
وجاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله ما من مالي شيء أحب إليَّ من المائة وسق التي أطعمتنيها من خيبر ، فقال له رسول الله ﷺ : «فاحبس أصلها واجعل ثمرها صدقة» ، فكتب عمر : إني حبست أصلها وجعلت ثمرتها صدقة لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والمقيم عليها ان يأكل أو يُؤكل صديقاً لا جناح ، ولا يباع ولا يوهب ولا يورث ما قامت السماوات والأرض ، جعل ذلك إلى ابنته حفصة فإذا ماتت فإلى ذي الرأي من أهلها [سنن الدارقطني 5/341 ، ح4425] .
وبعد ذلك تتابع الصحابة على هذا العمل الجليل المبارك فلم يبق أحدٌ من الموسرين منهم إلا وجعل له وقفاً .
ومن هنا أخذ العلماء مشروعية الوقف وأنه حبس الأصل يعني إبقائه فلا يباع ولا يشترى ولا يوهب ولا يورث ولا يتصرف فيه بأي تصرف ينقل رقبته ، واجتهد علماء الإسلام في بيان شروط الوقف وأركانه وما يتعلق به ، وقد سارع المسلمون في كافة الأعصار والأمصار حكاماً ومحكومين إلى وقف بعض أموالهم أو كلها تقرباً إلى الله ، وتنوعت الأوقاف وتعددت مصارفها ، فكان منها على الأقارب الفقراء ، وعلى والمرضى ، وعلى المسافرين ، وعلى الحجاج ، وعلى سقيا الماء ، وعلى الدواب الضالة ، وغير ذلك كثير .
كل ذلك طلباً للثواب المستمر الذي لا ينقطع ، كما تفصح عن ذك وثائق الأوقاف التي نجد فيها هذا المعنى ظاهراً جلياً ، ونجد فيها التشديد والتأكيد على منع بيعه أو تضييعه أو التلاعب بشروطه ، ويقرنون ذلك بالدعاء على من فعل ذلك ، أو تسبب فيه ، بل ولعنه .
وقد نصَّ العلماء رحمهم الله في كتبهم ومؤلفاتهم على وجوب تطبيق شرط الواقف الذي اشترطه في وقفه ؛ لأنه هو دستور العمل المتبع في الوقف في عمارته وتنميته وتوزيع غلته وغير ذلك ، هذا إذا لم يكن في الشرط مخالفة لأحكام الشرع .
ويمكن تقسيم الأوقاف إلى قسمين :
1 - أوقاف عامة ، وهي التي لم يحدد لها مستفيد معين ، وإنما حددت لها جهة برٍّ عامَّة ، مثل الفقراء والمساكين ، أو طلبة العلم ، أو المسافرين ونحو ذلك ، أو كان جهة برٍّ محددة لا تنقطع مثل الوقف على الحرمين ونحوها .
2 - أوقاف خاصة ، وهي ما تسمى بالذرية ، نسبة إلى ذرية الشخص الموقف أو قرابته ، أو غيرهم ممن يحددهم بحيث تصرف غلته لهم ومن بعدهم لذريتهم ، وتعتبر النظارة هي الجهة المعنية برعاية الوقف والقيام عليه وعمارته ، والدفاع عنه والحرص على مصلحته ، وتحصيل غلته ، وتوزيعها على مستحقيها .
وهي مرتبطة بالقضاء الشرعي ، حيث لا يتم تعيين الناظر او عزله إلا من قبل القضاء ، وكذلك عمارة الوقف ، أو استبداله ونحو ذلك .
ولدى التأمل في الأوقاف من أول عهدها في زمن النبي ﷺ مروراً بما بعده إلى يومنا هذا فإنا نجد أن الوقف قد أسهم إسهاماً كبيراً في الحياة الاجتماعية من حيث النفع الذي يدر منه على المستحقين ، ومن حيث تخفيف العبء عن بيت مال المسلمين أو خزانة الدولة بتأمين الإنفاق على أوجه عديدة لو لم يكن الوقف لتكبدت الدولة نفقات كبيرة جراء ذلك ، كما أنه حافظ على الأصول الموقوفة عبر مئات السنين من الضياع والاندثار ، ووفَّر –بفضل الله- للجهات الموقوف عليها ما يسد حاجتها أو يعين على سد جزء منها ، ويعتبر وقف الشريف محمد أبي نمي بن بركات الحسني رحمه الله رحمة واسعة من الأوقاف الذرية غلَّته مخصصة لصرفها على الفقراء من ذريته .
وفَّق الله الجميع لما يحبه ويرضاه ، والحمد لله .